جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣
أيَة دولة إسلاميَّة تلك التي تريدون؟
مستر همفر وعبد الله فيلبي ومسز بِل
تقول الجماعات الوهَّابيَّة، التي تقتل النَّاس بالجملة والمفرد، في مختلف أنحاء العالم العربيّ، والَّتي فُرِّخَتْ جميعها، بالمناسبة، من رحم «الإخوان المسلمين»، ومعلّموها الأساسيّون هم مِنْ أبرز رموز «الإخوان المسلمين»: سيّد قطب، وعبد الله عزَّام وأبو الأعلى المودوديّ.. الخ - تقول إنَّها تقتل كلّ هؤلاء النَّاس، بهذه الأساليب البشعة، وتدمّر وتخرّب، لكي تعيد بناء الدَّولة الإسلاميّة!

ماشي! ولكن – بعد إذنكم – أيَّة دولة إسلاميَّة هي تلك الَّتي تريدون بناءها؟

هل هي الدَّولة الأمويّة الَّتي كانت هي الأساس في قيام العهد العربيّ الإسلاميّ كلّه؟

حسناً! تلك الدَّولة كان قسمٌ كبير مِنْ جيشها (جيش الفتح الإسلاميّ، بالمناسبة) مكوَّناً من المسيحيين؟

أم هي الدَّولة الَّتي بلغت الحضارة العربيَّة الإسلاميّة في زمنها أوج ازدهارها، في القوّة والهيبة والتَّقدّم العلميّ والحضاريّ؛ أعني بذلك، الدَّولة العربيَّة الإسلاميّة في عهد المأمون، والمعتصم، والواثق بالله؟

أولئك، جميعاً، كانوا من فرقة المعتزلة، الَّتي كانت تعلي مكانة العقل، وتشجّع التَّفكير العلميّ. وطوال عهود هؤلاء، كان ابن حنبل، رائد التَّشدّد الدّينيّ، في السِّجن. وهذا ما سمَّاه المتشدِّدون، لاحقاً، بمحنة «ابن حنبل»، الَّذي أدخلت آراؤه الدِّينيَّة الأمَّةً كلَّها في محنة؛ مِنْ يوم ذاك وحتَّى يومنا هذا. فابن تيمية سار على منهاجه، ومحمدّ ابن عبد الوهَّاب سار على منهاج ابن تيمية ومنهاجه، وحسن البنا وسيّد قطب سارا على منهاج محمّد ابن عبد الوهّاب وابن تيمية ومنهاجه.. الخ.

أم هي دولة القرامطة الَّتي دامت مائتي سنة، وكانت عاصمتها الإحساء في البحرين، وامتدّ نفوذها إلى الشَّام والعراق ومصر، بل كان لها نفوذٌ في قصر الخليفة العبّاسيّ في بغداد.

يَعُدّ الكثير من المؤرّخيّن والباحثين دولة القرامطة أوَّل دولة اشتراكيّة في التَّاريخ، وقد دامت – بالمناسبة – أكثر من الاتّحاد السُّوفييتيّ بحوالي مائة وعشرين سنة. وحسب روايةٍ للشّيرازيّ الَّذي زار عاصمتها وهي في أوج مجدها، فقد كان يحكمها مجلس للحكم منتخبٌ، نصف أعضائه من النِّساء، وكان الحكّام (أي أعضاء مجلس الحكم)، يرتادون الأسواق بأنفسهم لشراء حاجيّاتهم وحاجيّات بيوتهم، مثلهم مثل سائر المواطنين. طبعاً هذه التَّجربة جرتْ محاولات هائلة لطمسها والتَّشنيع عليها مِن الحكّام المسلمين المستبدّين.

ويقول ابن رازم بأنَّ القرامطة كانوا يقولون ما معناه أنَّ الشَّرائع لم تُسن إلا لتقييد العامَّة وصيانة المصالح الدّنيويَّة الخاصّة للفئة الحاكمة.. أمَّا المثقَّفون فلا حاجة لخضوعهم لها.

وكتب القرامطة على راياتهم: «ونريد أنْ نمنّ على الَّذين اُستُضعِفوا ونجعلهم الأئمَّة ونجعلهم الوارثين».

أم هي الدَّولة الفاطميّة الَّتي كانت دولة شيعيّة (قبل تحوّل إيران إلى دولة شيعيَّة بقرون، طبعاً).

وبالمناسبة، فحتَّى مجيء الصَّليبيين، كان معظم سكّان بلاد الشَّام مسيحيين، في حين كان الباقون مسلمين شيعة. لذلك، كما يذكر كثيرون، كانت جدّاتنا المسلمات يتبنين في الحقيقة موروثات شيعيَّة؛ فكنّ – على سبيل المثال – إذا وقع طفلٌ على الأرض، يقلن ملهوفات: الله وعلي معاك! (وما إلى ذلك).

أم هي دولة سيف الدولة، الَّتي كان مِنْ أبرز رموزها الثَّقافيَّة أبو الطَّيّب المتنبِّي وأبو فراس الحمدانيّ؟ 

تلك كانت دولة علويّة، ذادت سنين طويلة عن ثغور العرب والمسلمين في مواجهة الدَّولة البيزنطيّة. وكلّنا قرأنا قصيدة أبي فراس الحمدانيّ، ابن عم سيف الدَّولة، عندما أُسِر في إحدى المعارك مع الدَّولة البيزنطيّة، فقال: 

أقول وقد ناحت بقربي حمامةٌ أيا جارتا هل تشعرين بحالي؟

معاذ الهوى.. ما ذقتِ طارقة النَّوى ولا خطرت منكِ الهموم ببالِ

أم هي دولة صلاح الدين الأيوبيّ؟

ذاك كان صوفيّاً.

وكذلك، عبد القادر الجزائريّ كان صوفيّاً؛

وعمر المختار كان صوفيّاً؛

وعزّ الدين القسَّام كان صوفيّاً..

والصوفيّة - لمن لا يعرف - تُعتَبَرُ من البِدَع.. بالنِّسبة للجماعات الوهَّابيَّة التَّكفيريَّة، بما فيها «جماعة الإخوان المسلمين».

وفي مصر، الآن، حوالي أربعة عشر مليون صوفيّ، وهم يقفون ضدّ الخلط بين الدين وبين السِّياسة؛ وبالأحرى ضدّ توظيف الدِّين لأغراض سياسيّة؛ مقابل بضع مئات الألوف من «الإخوان المسلمين»؛ لكنّ مع فارق أنَّ «الإخوان المسلمين» منظَّمين في حزب سياسيّ؛ في حين أنَّ الصوفيين لا حزب لهم، بل هم منصرفون عن العمل السِّياسيّ كلّه ومتفرّغون لعبادة ربّهم.

هل نستمرّ في التَّعداد والتَّفصيل؟

في الواقع، أظنّ أنَّه لا حاجة لذلك. كما أنَّنا نعرف جيّداً أنَّه لا يمكن استعادة التَّاريخ إلا على شكل مأساة أو مهزلة.

وباختصار، الدَّولة «الإسلاميَّة» الَّتي تريدها الجماعات الَّتي تقتل النَّاس الآن، بالجملة والمفرد وبأبشع الطّرق، ليست سنيَّة، ولا شيعيَّة، ولا علويَّة، ولا صوفيّة، ولا درزيّة؛ بل هي – سواء قالت ذلك صراحة أم لم تقله – على نموذج الدَّولة الوهَّابيَّة السّعوديّة القائمة الآن، الَّتي كان وراء تأسيسها (وتأسيس عقيدتها الوهَّابيّة) ضبّاط مخابرات بريطانيّون.. ابتداءً بمستر همفر، وليس انتهاءً بـ«عبد الله» فيلبي ومسز بِل.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال