جاري تحميل ... مدونة سعود قبيلات

إعلان الرئيسية

«إنَّ بعض الأماكن الضَّيِّقة المحكمة الإغلاق قد يكون فضاؤه بلا حدود، وبعض الأماكن المفتوحة والفسيحة قد يكون بالغ الضِّيق وبلا فضاء ولا آفاق، وبعض الأماكن الخالية قد يكون أكثر ازدحاماً من الأماكن المكتظَّة. وإنَّ الصَّمت قد يكون أكثر صخباً من الضَّجيج، والضَّجيج قد يكون خالياً من الأصوات. وإنَّ القامة قد تكون متطاولة إلى حدّ أنَّها بالكاد تبلغ نعل حذاء، وقد تكون عالية إلى حدّ أنَّها تطاول رؤوس السنابل». مِنْ كتابي الموسوم «كهفي» - سعود قبيلات.

إعلان في أعلي التدوينة

سعود قبيلات ▣


إذا رأيتهم يتقدّمون الصفوف(1)...
رسول حمزاتوف في أواخر سنيّ حياته


كان «بُرش» هاشم غرايبة في الغرفة رقم 15/14 من «الشبك»(2) رقم 1 في سجن «المحطَّة» السابق، يقع في الزاوية الداخليَّة منها على يسار الشخص الداخل إلى الغرفة، وفي الجهة المقابلة له كان «بُرش» هشام الفاهوم، أمَّا «برش»(3) كاتب هذه السطور فكان يقع في الزاوية المقابلة لباب الغرفة، ويليه مباشرةً من الداخل «برش» محمّد أبو شمعة الذي كان أكبر الشيوعيين المعتقلين سنّاً (كان في أواسط الأربعينيّات مِنْ عمره) كما أنَّه كان مسؤولهم الحزبيّ، يليه في العمر والرتبة الحزبيّة الرفيق نبيل الجعنيني الذي كان برشه في آخر الصفّ نفسه.. أي أنَّه كان لصق الجدار الخلفيّ للغرفة؛ وعلى البرش المقابل لي مباشرةً كان أسامة شنّار المسؤول الأوَّل في حينه للجبهة الديمقراطيّة في الأردن (مجد)، وفي الغرفة 15 المجاورة لغرفتنا 14 والمفتوحة عليها كان يقيم رفيقا أسامة البارزان.. تيسير الزبريّ وعليّ عامر مع رفاقٍ آخرين.

كان محمّد أبو شمعة يخرخش بأوراقه كلَّ ليلة بعض الوقت ثمّ ينام. أمّا أسامة شنّار، فأذكر أنَّه في فترةٍ مِنْ تلك الفترات كان يقرأ كتاباً عن نابلس مكوَّناً مِنْ عدّة مجلّدات ألَّفه باحثٌ مِنْ آل النمر. وذات مرّة توقّف عن القراءة وقال لي: «اسمع يا رفيق سعود ماذا قرأت الآن». ثمَّ راح يقرأ من الكتاب أنَّ آل كنعان وآل كلبونة (وهم من العائلات المعروفة في نابلس) إنّما هم أصلاً مِنْ قبيلة بني حميدة (القبيلة التي أنتمي إليها).

ولقد مرَّ على تلك الغرفة بقسميها 14 و15 كثيرون، منهم مناضل كرديّ يساريّ مثقّف مِنْ أكراد إيران اسمه عبّاس ولا أعرف اسمه الكامل، ومنهم أيضاً كردي سوريّ بسيط كان مع عبَّاس لا أذكر اسمه. الكردي الإيراني كان يعرف القليل من اللغة العربيّة، ومع ذلك ربطت بيني وبينه مودّة عميقة. ولا أعرف أين هو الآن.

ومن الذين مرّوا على تلك الغرفة أيضاً المخرج المعروف محمّد عزيزيّة على مخالفة سير أو شيء مِنْ هذا القبيل. وعموماً، كان كلّ فنّان أو مثقّف يُسجن لأيّ سببٍ كان يَطلب أنْ يوضع في غرفة الشيوعيين. 

وكنّا في أوقات إغلاق الأبواب ننهمك بالقراءة في أغلب الأحيان. وأذكر من الكُتب التي قرأناها  آنذاك  «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعرّي، وديوان أبي الطيّب المتنبِّي، وكتاب «النزعات المادّيّة في الإسلام» للدكتور حسين مروّة، والأعمال الكاملة لتيسير سبول، والأعمال الكاملة لأنطون تشيخوف، وكتاب الشاعر التشيليّ الشهير بابلو نيرودا «أشهد أنَّني قد عشت»، وكتاب «داغستان بلدي» للشاعر السوفييتيّ الداغستانيّ رسول حمزاتوف، وكتاب «عيون إلزا» للشاعر الفرنسيّ لويس أراغون (المعروف بشاعر المقاومة الفرنسيّة) الذي يحكي فيه بعطف عن أواخر أيّام العرب في الأندلس في عهد أبي عبد الله الصغير، ورواية «مائة عام من العزلة» للكاتب الكولمبيّ الشهير غابرييل غارسيا ماركيز. لم يكن ماركيز شهيراً آنذاك، على الأقلّ في العالم العربيّ، وكان بالنسبة لنا، حينها، اكتشافاً جديداً ومذهلاً، وما لبث أنْ نال جائزة نوبل بعد فترة وجيزة. وأنا شخصيّا، كنتُ أشتري (وأقرأ) حوالي اثني عشر مجلّة عربيّة. ونشرتُ في حينه بعضاً مِنْ مقالاتي وقصصي في بعضها.

على أيّة حال، كان مِنْ عادة هاشم وهشام، أنْ يقطعا قراءاتهما، مِنْ حينٍ لحين، ليتبادلا الحديث، بصوتٍ عالٍ، مِنْ زاويتيهما المتقابلتين، بشأن ما هما منكبّان على قراءته. وفي كثير من الأحيان، كان يتخلَّل الحديث ضحك مدوٍّ.. وخصوصاً مِنْ هشام الفاهوم الذي كان يتميَّز بضحكته الصاخبة المجلجلة. وأكون أنا في العادة منكبّاً على قراءة كتابٍ آخر، وبما أنَّني لم أكن متعوّداً على الحديث أوّلاً بأوَّل عن ما أقرأ، وأنَّني كنت أجد مشقَّة في التوقّف القسريّ المتكرِّر عن التركيز على القراءة ثمَّ العودة إليها مِنْ جديد، فقد كنت أنزعج جدّاً مِنْ أحاديثهما الصاخبة تلك، فأبدي لهما تذمّري العلنيّ أحياناً مِنْ سلوكهما ذاك، لكنّهما كانا يستجيبان لبعض الوقت فقط ثمَّ يعودان إلى متابعة عادتهما المفضّلة تلك مِنْ جديد. واضطررت مع الزمن ومع اليأس مِنْ تغييرهما أنْ أتكيّف مع هذا الوضع، بل ربَّما أنَّني أصبحت في مرحلةٍ لاحقة أشاركهما الحديث في شأن بعض قراءاتي.

كان هاشم وهشام، آنذاك، شابّين في أواخر العشرينيّات مِنْ عمريهما، ولكنَّهما  كما أتذكّر كانا، مثل معظمنا في تلك المرحلة، يتعمَّدان الظهور بمظهر رجلين مسنّين وقورين. وربَّما أنَّ هاشم معروف الآن لدى كثير مِن المهتمّين بالأدب والأدباء والحياة العامَّة في بلادنا، أمّا هشام، فلم يحظَ بهذا القدر من الشهرة.. مع الأسف. كان هشام شابّاً ذكيّاً، مثقّفاً، وقارئاً نهماً. وكان وسيماً، طويل القامة، نحيلاً، ذا لحية شقراء مرسلة على طريقة غيفارا. ولا أدري أين آل مصيره بعد كلّ هذه السنين.

وأنا أتذكَّرُ هذا المشهد القديم كلَّما نبشتُ في كتبي وأوراقي التي تعود إلى مرحلة السجن. وعندئذٍ، تخطر في بالي صورة شبّان في مقتبل أعمارهم كانت لديهم همَّة عالية للعمل ليس مِنْ أجل تغيير الأوضاع في بلادهم وحدها للأفضل، بل أكثر مِنْ ذلك، كانوا ينظرون إلى أنفسهم بوصفهم جزءاً مِنْ حلم كبير لتغيير العالم كلّه، وكانوا لذلك مستعدّين لتقديم أفدح التضحيات مِنْ أجل تحقيق هذا الحلم النبيل العزيز.

على أيَّة حال، أريد أنْ أستعيد هنا، مِنْ قراءات تلك الأيَّام، بعض الجمل والفقرات الجميلة مِنْ كتابة (وأقوال) رسول حمزاتوف (1923  2003):

«لو لم يكن في هذا العالم ليل، لما كان للصباح أنْ يولد».

«إنَّ الإنسان في حاجة إلى عامين ليتعلَّم الكلام، وإلى ستين عاماً(4) ليتعلّم الصمت».

«إنَّ التفاهة تستطيع أنْ ترى الأشياء والظواهر الكبيرة وحدها، ولا تلاحظ أيَّ شيءٍ قريب منها، أمَّا الإنسان العظيم فيستطيع أنْ يرى ما هو كبير وما هو صغير على حدٍّ سواء، ويستطيع أنْ يكتشف حتَّى في أصغر الأشياء أكبرها ويبرزه للناس».

«مَنْ خَرَجَ يبحثُ عن الحقيقة.. حَكَمَ على نفسه بأن يبقى دائماً في الطريق».

«لا تخبِّئ أفكارك.. إذا خبَّأتها فستنسى في ما بعد أين وضعتها».

«في ذاتي سذاجة الطفل وعاطفة وطيش الشابّ وحكمة الشيخ؛ ليس لي عمر».

«يمكن للرجل أن يركع في حالتين: ليشرب من العين، وليقطف زهرة».

«كيف لك أن تكون بخير في هذا العالم المريض؟!».

«ما أنا بوحيد في رقادي: على صدري ينحني القلق كامرأة ويسرع الفرح أو الحزن ليلتصقا بي ويظل الخوف منطرحاً على العتبة ككلب».

«- قل لي، أيَّها البحر، لماذا أنت مالح؟

- الدمع الإنسانيّ في أمواجي غير قليل!

- قل لي، أيَّها البحر، بماذا أنت ملوَّن؟

- المرجان في أعماقي دفين!

- قل لي، أيّها البحر، لماذا هذا الاضطراب؟

- في لجَّتي هلك الكثير من الشجعان:

بعضهم كان يحلم بأن لا أكون مالحاً،

وبعضهم غطس يبحث عن المرجان!».

ومن الآراء الطريفة لرسول حمزاتوف:

«نحن الشعراء مسؤولون بالطبع عن العالم كلّه».

ويقول بلسان «أبو طالب» (الشخصيّة الرئيسة في كتابه الجميل «داغستان بلدي»):

«لقد اِبيضَّ شعر رأسي لأنَّ عليَّ أنْ أنتظر دائماً هؤلاء الأولاد الملاعين الذين يذهبون إلى الحانوت ليأتوا بالفودكا ثمَّ يتأخَّرون. نعم يا رسول. الأولاد لا يفهمون عذاب الآباء ما داموا هم أنفسهم لم يأتوا بأولاد».

ثمَّ يستخلص مِنْ ذلك الحكمة التالية: «يجب أنْ ترسل للبحث عن الفودكا مَنْ يحبّ هو نفسه أنْ يشرب منها قدحاً، وعندئذٍ لن يتأخَّر».

وقبيل وفاته بأيَّام، قال: «حياتي مسودة كنتُ أتمنَّى لو أنّ لديّ الوقت لتصحيحها».

وأستعيد من الذاكرة شيئاً محفوظاً فيها، أظنّه مِنْ كتاب حمزاتوف نفسه («داغستان بلدي»):

«إذا رأيتَ الجبناءَ يتقدّمون الصفوفَ، فاِعلم أنَّها الخيانة».
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)تجدر الإشارة هنا إلى أنَّني كتبتُ هذا المقال (ونشرته) للمرّة الأولى في شهر آب من العام 2013، واليوم (19تشرين الأوَّل/أكتوبر 2019) أعدتُ صياغته وأضفتُ إليه العديد من الحكايات والتفاصيل التي لم تكن موجودة في نسخته الأولى.

(2)كان سجن «المحطّة» مقسَّماً إلى خمسة «أشباك» (أقسام). وقد كتب الأديب الأردنيّ الراحل فايز محمود، في السجن، قصَّةً طريفةً عن تلك «الأشباك»، بعنوان «قارَّات السجن الخمس». وكان الشبك رقم 1 مخصَّصاً للسجناء السياسيين وقد كان مطلّاً مِنْ بعض نواحيه على مشهدٍ كبيرٍ مِنْ عمَّان يمتدّ مِنْ منطقة ماركا وحتَّى حيّ الزغاتيت. 


 (3)كنتُ أستطيع وأنا جالس على بُرشي ذاك أنْ أرى حيّ الزغاتيت مِنْ خلل قضبان السجن. وقد فزتُ بتلك الإطلالة البديعة إثر إطلاق سراح رفيقي عدنان الأسمر. وكان كثيرون مِنْ سكّان الغرفة 14، 15 يحسدونني على ذلك الموقع المميَّز. ومع الأسف، فإنَّ رفيقنا عدنان لم يكن يستطيع الاستمتاع بالمشهد الذي كان يوفِّره له برشه السابق ذاك عندما كان مقيماً عليه، لأنَّ عينيه عميتا تحت التعذيب في زنازين المخابرات.


(4)بحسب التجربة، فإنَّ البعض ربَّما يحتاج إلى عددٍ أكبر بكثير من السنين ليتعلّم الصمت.
ليست هناك تعليقات
إرسال تعليق

إعلان أسفل المقال